فصل: بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِوُجُوبِهِ وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ لِأَجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا.
وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ «جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا وَتَحَبَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُجْبَرُوا وَتُنْصَرُوا وَتُرْزَقُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا فَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَلَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ أَلَا فَلَا صَوْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَفِي حَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ يَقُولُ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلِيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ».
وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْفَرْضِ الْجُمُعَةُ فِي حَقِّ مَنْ تَلْزَمُهُ إقَامَتُهَا وَكَانَتْ فَرِيضَةُ الْجُمُعَةِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَفَرِيضَةِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا هُوَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَهُوَ الظُّهْرُ وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ هَذَا الْفَرْضِ بِالْجُمُعَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ وَلَوْ جَعَلْنَا أَصْلَ الْفَرْضِ الْجُمُعَةَ لَكَانَ الظُّهْرُ خَلَفًا عَنْ الْجُمُعَةِ عِنْدَ فَوَاتِهَا وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا تَكُونُ خَلَفًا عَنْ رَكْعَتَيْنِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الظُّهْرُ وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ هَذَا الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهَا فَهِيَ تَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْهَا فِي الْمُصَلِّي وَمِنْهَا فِي غَيْرِهِ (قَالَ) أَمَّا الشَّرَائِطُ فِي الْمُصَلِّي لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَالْإِقَامَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالصِّحَّةُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا مُسَافِرٌ وَمَمْلُوكٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ وَمَرِيضٌ فَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ».
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدُخُولِ الْمِصْرِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ أَحَدًا يَحْفَظُ رَحْلَهُ وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ وَالْمَمْلُوكُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَيَتَضَرَّرُ مِنْهُ الْمَوْلَى بِتَرْكِ خِدْمَتِهِ وَشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ الْإِمَامَ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ كَمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْجِهَادَ بِخِلَافِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ حَيْثُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى أَوْ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى عَنْهُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى إذْ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ كَثِيرٌ عَلَيْهِ وَتَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْكَثِيرِ.
(قَالَ): وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا لِمَا فِي خُرُوجِهَا إلَى مَجْمَعِ الرِّجَالِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْمَرِيضُ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّعْيِ بِنَفْسِهِ وَيَلْحَقُهُ مِنْ الْحَرَجِ مَا يَلْحَقُ الْمَرِيضَ وَعِنْدَهُمَا إذَا وَجَدَ قَائِدًا تَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى السَّعْيِ وَإِنَّمَا لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ كَالضَّالِّ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ لَا شَرَائِطُ الْأَدَاءِ حَتَّى أَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَمْلُوكَ وَالْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ إذَا شَهِدُوا الْجُمُعَةَ فَأَدَّوْهَا جَازَتْ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «كُنَّ النِّسَاءُ يُجْمَعْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا تَخْرُجْنَ إلَّا تَفِلَاتٍ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» وَلِأَنَّ سُقُوطَ فَرْضِ السَّعْيِ عَنْهُمْ لَا لِمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ فَإِذَا تَحَمَّلُوا الْتَحَقُوا فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ (قَالَ) فَأَمَّا الشَّرَائِطُ فِي غَيْرِ الْمُصَلَّى لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَسِتَّةٌ الْمِصْرُ وَالْوَقْتُ وَالْخُطْبَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَالسُّلْطَانُ وَالْإِذْنُ الْعَامُّ أَمَّا الْمِصْرُ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكُلُّ قَرْيَةٍ سَكَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ بِهِمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَى وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ وَكَتَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُوَاثَى فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ جَمِّعْ بِهَا وَحَيْثُمَا كُنْت.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى مَا اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَبِنَاءِ الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَجُؤَائِي مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ وَتَسْمِيَةُ الرَّاوِي إيَّاهَا بِالْقَرْيَةِ لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّأْوِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وَمَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَحَيْثُمَا كُنْت أَيْ مِمَّا هُوَ مِثْلُ جِؤَائِي مِنْ الْأَمْصَارِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ قَاضٍ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ صَانِعٍ أَنْ يَعِيشَ بِصَنْعَتِهِ فِيهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّحَوُّلِ إلَى صَنْعَةٍ أُخْرَى وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّ أَهْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا مِصْرٌ جَامِعٌ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا عَلَى مَنْ سَكَنَ الْمِصْرَ وَالْأَرْيَافَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْمِصْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الْآيَةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَنْ سَكَنَ مِنْ الْمِصْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَهَا وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَسْكُنُهُ مَنْ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ مُسَافِرًا فَوَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا لِأَنَّ مَسْكَنَهُ لَيْسَ مِنْ الْمِصْرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقِيمَ فِي الْمِصْرِ لَا يَكُونُ مُقِيمًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ يَعْنِي بِهِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ قَالَ لَهُ: إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» «وَكَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَتَجَهَّزُ فِيهِ الْيَهُودُ لِسَبْتِهِمْ فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحَى» مَعْنَاهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَمَقْصُودُ الرَّاوِي أَنَّهُ مَا أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: تَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْوَقْتَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ (قَالَ) وَالْخُطْبَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَعْنِي الْخُطْبَةَ، وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّى الْجُمُعَةَ فِي عُمْرِهِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ فَلَوْ جَازَ لَفَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ.
(قَالَ) بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْخُطْبَةُ تَقُومُ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ شَطْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْخُطْبَةَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي أَدَائِهَا وَلَا يَقْطَعُهَا الْكَلَامُ وَيُعْتَدُّ بِهَا وَإِنْ أَدَّاهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ فَبِهِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ (قَالَ) وَالْجَمَاعَةُ مِنْ شَرَائِطِهَا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً وَفِي هَذَا الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا.
وَيَخْتَلِفُونَ فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ سِوَى الْإِمَامِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ لِأَنَّ الْمُثَنَّى فِي حُكْمِ الْجَمَاعَةِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمَا وَفِي الْجَمَاعَةِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُثَنَّى وَجْهُ قَوْلِهِمَا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَهَذَا يَقْتَضِي مُنَادِيًا وَذَاكِرًا وَهُوَ الْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ وَالِاثْنَانِ يَسْعَوْنَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاسْعَوْا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُثَنَّى ثُمَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِجَمْعٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَصَلُوا بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَالْمُثَنَّى وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ وَاشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِي الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى أَنَّ نِصَابَ الْجُمُعَةِ لَا يَتِمُّ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَيَتِمُّ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: النِّصَابُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ وَهَذَا فَاسِدٌ.
فَإِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَقَامَهَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَلَمَّا نَفَرَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْعِيرُ الْمَدِينَةَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا} بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ لِأَنَّ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ أَعْلَى فَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا فِي الصَّلَاحِيَّةِ لِلْإِمَامَةِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَكُونُ مُؤْتَمًّا وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ هَذَا فَقَدْ «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ حَتَّى قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ»
(قَالَ) وَالسُّلْطَانُ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَاسَهُ بِأَدَاءِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَالسُّلْطَانُ وَالرَّعِيَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ» فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمَامَ لِإِلْحَاقِهِ الْوَعِيدَ بِتَارِكِ الْجُمُعَةِ وَفِي الْأَثَرِ «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ مِنْهَا الْجُمُعَةُ» وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ الْجَمَاعَاتِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا السُّلْطَانُ أَدَّى إلَى الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ يَسْبِقُ بَعْضُ النَّاسِ إلَى الْجَامِعِ فَيُقِيمُونَهَا لِغَرَضٍ لَهُمْ وَتَفُوتُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَيُجْعَلُ مُفَوَّضًا إلَى الْإِمَامِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ أَحْوَالُ النَّاسِ وَالْعَدْلُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ.
وَالْإِذْنُ الْعَامُّ مِنْ شَرَائِطِهَا حَتَّى أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا صَلَّى بِحَشَمِهِ فِي قَصْرِهِ فَإِنْ فَتْح بَابَ الْقَصْرِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ إذْنًا عَامًّا جَازَتْ صَلَاتُهُ شَهِدَهَا الْعَامَّةُ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوهَا وَإِنْ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ قَصْرِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ السُّلْطَانِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَفْوِيتِهَا عَلَى النَّاسِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِذْنِ الْعَامِّ وَكَمَا يَحْتَاجُ الْعَامَّةُ إلَى السُّلْطَانِ فِي إقَامَتِهَا فَالسُّلْطَانُ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ إذْنًا عَامًّا بِهَذَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (قَالَ) فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُمْ وَقَدْ أَسَاءُوا فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُمْ أَدَّوْا أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْهَا لَهُمْ أَمَرْنَاهُمْ بِإِعَادَةِ الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْأَمْرُ بِإِعَادَةِ الظُّهْرِ عِنْدَ تَفْوِيتِهَا فِي الْوَقْتِ وَمَا فَوَّتُوهَا وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِمْ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ مَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَهَا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ»
(قَالَ) وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَلَيْسَ تَتْلُو قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوك قَائِمًا} كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ النَّاسُ بِدُخُولِ الْعِيرِ الْمَدِينَةَ» وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِلْسَةَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّهَا شَرْطٌ (قَالَ) إمَامٌ خَطَبَ جُنُبًا ثُمَّ اغْتَسَلَ فَصَلَّى بِهِمْ أَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا يُجْزِئُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَفِي الْأَثَرِ إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ فَكَمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْخُطْبَةَ ذِكْرٌ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَا خَلَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي حَقِّ الْجُنُبِ وَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ نَظِيرَ الصَّلَاةِ وَلَا بِمَنْزِلَةِ شَطْرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُؤَدَّى غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ بِهَا الْقِبْلَةَ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّوَابِ كَشَطْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي اشْتِرَاطِ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْأَذَانِ أَنَّهُ يُعَادُ أَذَانُ الْجُنُبِ وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ خُطْبَةِ الْجُنُبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّ الْأَذَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْجَوَازِ فَذِكْرُ اسْتِحْبَابِ الْإِعَادَةِ وَالْخُطْبَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ الْجَوَازِ فَذَكَرَ الْجَوَازَ هُنَا.
وَاسْتِحْبَابُ الْإِعَادَةِ هَاهُنَا كَهُوَ فِي الْأَذَانِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فِي خُطْبَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} قِيلَ: الْآيَةُ فِي الْخُطْبَةِ سَمَّاهَا قُرْآنًا لِمَا فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خُطْبَتِهِ وَذَكَرَ السُّورَةَ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَالْإِعْجَازِ وَلَوْ اكْتَفَى بِقِرَاءَةِ آيَةٍ طَوِيلَةٍ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بِهَذَا فَسُنَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى (قَالَ) وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَأَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِمَامُ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَالْجُمُعَةُ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَمَنْ وَلَّاهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِخْلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الْمُفْتَتِحُ لَهَا فَإِذَا لَمْ يَسْتَجْمِعْ شَرَائِطَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ افْتِتَاحُهَا كَالْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَخْطُبْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ افْتَتَحَ الْأَوَّلُ الصَّلَاةَ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّانِي بَانٍ وَلَيْسَ بِمُفْتَتِحٍ وَالْخُطْبَةُ مِنْ شَرَائِطِ الِافْتِتَاحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَفْسَدَ الْبَانِي صَلَاتَهُ ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ أَيْضًا وَهُوَ مُفْتَتِحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَصَارَ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ اُلْتُحِقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ حُكْمًا فَلِهَذَا جَازَ لَهُ افْتِتَاحُهَا بَعْدَ الْإِفْسَادِ.
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ جُنُبًا وَقَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلَمَّا أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ أَمَرَ هُوَ رَجُلًا طَاهِرًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ الْإِمَامِ إيَّاهُ يُثْبِتُ لَهُ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ فَيُفِيدُهُ وِلَايَةَ الِاسْتِخْلَافِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ الْأَوَّلُ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَمَرَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ إيَّاهُ لَمْ يُفِدْهُ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُفِيدُهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ الْأَوَّلُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْهُ وِلَايَةَ إقَامَتِهَا بِنَفْسِهِ وَوِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ تَثْبُتُ تَبَعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا فَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ إمَامًا أَوْ الْقَاضِي أَوْ أَمَرَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَقَدْ فَوَّضَ إلَى الْقَاضِي وَصَاحِبِ الشُّرْطِ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا فِيهِ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ فِي الْإِمَامَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ (قَالَ): وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ وَالتَّكَلُّمُ فِي خِلَالِهِ يُذْهِبُ بَهَاءَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ كَمَا فِي خِلَالِ الْأَذَانِ وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَسْأَلُهُ النَّاسُ عَنْ سِعْرِ الشَّعِيرِ وَعَنْ سِعْرِ الزَّيْتِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي خِلَالِهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ وَهُوَ يَخْطُبُ: أَيَّةُ سَاعَةِ الْمَجِيءِ هَذِهِ الْحَدِيثُ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْخُطْبَةُ كُلُّهَا وَعْظٌ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إذْ دَخَلَ أَعْرَابِيُّ وَقَالَ: هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ وَخَشِينَا الْقَحْطَ فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قِيلَ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} الْآيَةُ وَقِيلَ كَانَ مَلَكًا مُقَيَّضًا هَبَطَ فِي الْجُمُعَتَيْنِ لِيُذَكِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعَاءَ الِاسْتِسْقَاءِ وَدُعَاءَ الْفَرَجِ مِنْ خَوْفِ الْغَرَقِ وَالْخُطْبَةُ فِيهَا الدُّعَاءُ (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ فِي الْخُطْبَةِ يُخَاطِبُهُمْ بِالْوَعْظِ فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِالْكَلَامِ لَمْ يُفِدْ وَعْظُهُ إيَّاهُمْ شَيْئًا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: انْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ» «وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةً فِي خُطْبَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَمَا إنَّ حَظَّك مِنْ صَلَاتِك مَا لَغَوْت فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُوهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَدَقَ أُبَيٌّ» وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: مَتَى تَخْرُجُ الْقَافِلَةُ؟ فَقَالَ صَاحِبُهُ: غَدًا فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لِلْمُجِيبِ: أَمَّا إنَّك فَقَدْ لَغَوْت وَأَمَّا صَاحِبُك هَذَا فَحِمَارٌ.
فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَسْكُتُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْئَانِ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ فَمَنْ قَرُبَ مِنْ الْإِمَامِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْإِنْصَاتُ فَيَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَخْتَارُ السُّكُوتَ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَخْتَارُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ وَالْحَكَمُ بْنُ زُهَيْرٍ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا وَكَانَ مُولَعًا بِالتَّدْرِيسِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا دَخَلَ الْعِرَاقَ أَحَدٌ أَفْقَهُ مِنْ الْحَكَمِ بْنِ زُهَيْرٍ قُلْت: فَهَلْ يَرُدُّونَ السَّلَامَ وَيُشَمِّتُونَ الْعَاطِسَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَمِعُوا فَقَدْ أَظْرَفَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَلَمْ يَقُلْ لَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَاطِسَ هَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَأَمَّا التَّشْمِيتُ وَرَدُّ السَّلَامِ فَلَا يَأْتِي بِهِمَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ وَالِاسْتِمَاعَ سُنَّةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: رَدُّ السَّلَامِ إنَّمَا يَكُونُ فَرِيضَةً إذَا كَانَ السَّلَامُ تَحِيَّةَ وَفِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ الْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ السَّلَامِ فَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ فَرْضًا كَمَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ طَلَبُ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ تَارِيخِ الْمُنْزَلِ فَقَدْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا آيَةَ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَقَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّغْوِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَكَذَلِكَ رَدُّ السَّلَامِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّهُ يُبَلِّغُهُمْ أَمْرًا فَعَلَيْهِمْ الِامْتِثَالُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَالَةَ الْخُطْبَةِ كَحَالَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ فَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ الْقَوْمُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا فِي خُطْبَتِهِ (قَالَ): الْإِمَامُ إذَا خَرَجَ فَخُرُوجُهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُكْرَهَ افْتِتَاحُهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ فِيهَا أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا يَعْنِي يُسَلِّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: الصَّلَاةُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ خَطِيئَةٌ وَلِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ وَالصَّلَاةُ تَشْغَلُهُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّطَوُّعِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِحَدِيثِ «سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْهُمَا» وَدَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الْمَسْجِدَ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَا أَتْرُكُهُمَا بَعْدَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِمَا مَا قَالَ.
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ سُلَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْلِهِ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} وَقِيلَ لِمَا دَخَلَ وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ رَثَّةٌ تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِهِ وَانْتَظَرَهُ حَتَّى قَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَرَى النَّاسُ سُوءَ حَالِهِ فَيُوَاسُوهُ بِشَيْءٍ وَفِي زَمَانِنَا الْخَطِيبُ لَا يَتْرُكُ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ فَلَا يَشْتَغِلُ هُوَ بِالصَّلَاةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ كَمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَلَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ» وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَمْتَدُّ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهَا حِينَ يَأْخُذُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَتَى شَاءَ وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: إذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى النَّاسُ الْكَلَامَ وَأَمَّا إذَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فَهُمْ يَكْتُبُونَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَكَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا فَيَجْعَلُ كَالشَّارِعِ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ جَعْلَ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا كَالشُّرُوعِ فِيهَا فَكَذَلِكَ فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ وَوُجُوبُ الْإِنْصَاتِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْخُطْبَةِ حَتَّى يُكْرَهَ الْكَلَامُ فِي حَالَةِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْخَطِيبَ بِوَجْهِهِ إذَا أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ لِأَنَّ الْخَطِيبَ يَعِظُهُمْ وَلِهَذَا اسْتَقْبَلَهُمْ بِوَجْهِهِ وَتَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ لِيُظْهِرَ فَائِدَةَ الْوَعْظِ وَتَعْظِيمَ الذِّكْرِ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَلَكِنَّ الرَّسْمَ الْآنَ أَنَّ الْقَوْمَ يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ هَذَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْحَرَجِ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ إذَا اسْتَقْبَلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ (قَالَ) وَإِذَا خَطَبَ بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِتَهْلِيلٍ أَوْ بِتَحْمِيدٍ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَكُونَ كَلَامًا يُسَمَّى خُطْبَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَجْلِسَ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً وَاسْتَدَلَّ بِالتَّوَارُثِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالتَّوَارُثُ كَالتَّوَاتُرِ وَلَكِنَّا قَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ وَجَلَسَ بَيْنَهُمَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الشَّرْطُ الْخُطْبَةُ وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً وَقَائِلُهَا لَا يُسَمَّى خَطِيبًا فَمَا لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَمَّى خُطْبَةً لَا يَتِمُّ شَرْطُ الْجُمُعَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتُجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَعُدَّانِ لِهَذَا الْمَكَانِ مَقَالًا أَوْ قَالَ يَرْتَادَانِ أَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ وَسَتَأْتِي الْخُطَبُ اللَّهُ أَكْبَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ وَنَزَلَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ.
وَلَمَّا أَتَى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتُجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ هَالَنِي كَثْرَةُ رُءُوسِكُمْ وَأَحْدَاقِكُمْ إلَيَّ بِأَعْيُنِكُمْ وَإِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَيْكُمْ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْعَيِّ إنَّ لِي نِعَمًا فِي بَنِي فُلَانَ فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَانْتَهِبُوهَا وَنَزَلَ وَصَلَّى مَعَهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالذِّكْرُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ شَرْطُ الْكَمَالِ لَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةٌ وَجِيزَةٌ تَحْتَهَا مَعَانٍ جَمَّةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى قَدْرِ الْخُطْبَةِ وَزِيَادَةٍ وَالْمُتَكَلِّمُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَالذَّاكِرِ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خُطْبَةً لَكِنَّهَا وَجِيزَةٌ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ حَتَّى إذَا عَطَسَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى عُطَاسِهِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْخُطْبَةِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ مُفَسَّرًا فِي الْأَمَالِي (قَالَ): وَالْأَذَانُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ الصَّلَاةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ هَكَذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَحْدَثَ النَّاسُ الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَذَانِ (قَالَ): رَجُلٌ ذَكَرَ فِي الْجُمُعَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَجْرَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَخَافُ فَوْتَ الْجُمُعَةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُمُعَةَ وَيَبْدَأَ بِالْفَجْرِ ثُمَّ بِالْجُمُعَةِ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا.
وَالثَّانِي أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَهَذَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عَنْهُ سَاقِطٌ بِضِيقِ الْوَقْتِ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ دُونَ الْوَقْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَظِيرُ الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الْجُمُعَةِ قَدْ صَحَّ وَهُوَ يَخَافُ فَوْتَهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْعِشَاءَ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَخَافُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَفُوتُهُ أَصْلُ الصَّلَاةِ إنَّمَا يَفُوتُهُ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ وَهَهُنَا يَفُوتُهُ أَصْلُ الصَّلَاةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْجُمُعَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ الْفَجْرَ فِي خِلَالِ الظُّهْرِ وَهُوَ يَخَافُ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَا يَفُوتُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَالظُّهْرِ وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ (قَالَ): رَجُلٌ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ فَوَقَفَ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ فَهَذَا وَاللَّاحِقُ سَوَاءٌ يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا فَكَانَ مُقْتَدِيًا فِي الْإِتْمَامِ وَلَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ كَاَلَّذِي نَامَ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِقْدَارَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ كَمَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا رَكَعَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْقِيَامِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَا امْتِدَادُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَوْ لَمْ يُطَوِّلْ الْقِيَامَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِيهِمَا فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): وَلَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ خَافَ فَوْتَهَا لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الظُّهْرُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ (قَالَ): مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ شُهُودُ الْجُمُعَةِ فِيهِ (قَالَ): وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَالْجُمُعَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَفَرْضُهُ الظُّهْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فَفَرْضُهُ الْجُمُعَةُ وَلَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْمَعْذُورِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَفِي سَائِرِ الْأَيَّامِ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ كَانَ فَرْضُهُ مَا أَدَّى فِي بَيْتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجُمُعَةُ أَقْوَى مِنْ الظُّهْرِ وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ وَإِنَّمَا فَارَقَ الْمَرِيضُ الصَّحِيحَ فِي التَّرَخُّصِ بِتَرْكِ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَإِذَا شَهِدَهَا فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّهِ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ وَهَذَا صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ فَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُجْزِئُهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَوَاتُ الْأَصْلِ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ السُّلْطَانُ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَوَاتُ الْأَصْلِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَأَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ الظُّهْرُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ هَذَا الْيَوْمِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يَنْوِي الْقَضَاءَ فِي الظُّهْرِ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي حَقِّهِ الظُّهْرَ لَمَا احْتَاجَ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ وَقَدْ أَدَّاهُ فِي وَقْتِهِ فَيُجْزِئُ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ (قَالَ) وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ فَرَغَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْجُمُعَةُ فَأَمَّا مُجَرَّدُ السَّعْيِ فَلَيْسَ بِأَقْوَى مِمَّا أَدَّى وَلَا يَجْعَلُ السَّعْيَ إلَيْهَا كَمُبَاشَرَتِهَا فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ بِهِ كَالْقَارِنِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ يَصِيرُ رَافِضًا لَهَا وَلَوْ سَعَى إلَى عَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّعْيَ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِيهَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَالِاشْتِغَالِ بِهَا مِنْ وَجْهٍ فَيَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِلظُّهْرِ وَلَكِنَّ السَّعْيَ إلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا لَا بَعْدَهُ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَارِنِ فِي الْقِيَاسِ تَرْتَفِضُ عُمْرَتُهُ بِالسَّعْيِ إلَى عَرَفَاتٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَرْتَفِضُ لِأَنَّ السَّعْيَ هُنَاكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَضَعُفَ فِي نَفْسِهِ وَهَهُنَا مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ (قَالَ): وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ شَرَائِطِهَا فَإِذَا فَاتَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا لِأَنَّ شَرَائِطَ الْعِبَادَةِ مُسْتَدَامَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنْ قَهْقَهَ لَمْ يَلْزَمْهُ وُضُوءٌ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْحَلَّتْ بِفَسَادِ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَمْ تَحِلَّ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرِيضَةِ فَإِذَا قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِمُصَادَفَةِ الْقَهْقَهَةِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ (قَالَ) وَإِذَا فَزِعَ النَّاسُ فَذَهَبُوا بَعْدَ مَا خَطَبَ الْإِمَامُ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ إلَّا أَنْ يَبْقَى مَعَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ سَوَاءٍ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي مِقْدَارِهَا وَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْعَبِيدِ أَوْ الْمُسَافِرِينَ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّهُمْ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ الصِّبْيَانِ وَإِنْ كَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَةً ثُمَّ ذَهَبُوا أَتَمَّ صَلَاتَهُ جُمُعَةً عِنْدَنَا (وَقَالَ) زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ إذَا ذَهَبُوا قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الْجُمُعَةِ كَالْوَقْتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجَمَاعَةُ شَرْطُ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَتَّى صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً فَكَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمُعَةً بِخِلَافِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَتَمَامُ الْأَدَاءِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَأَتَمَّ الْجُمُعَةَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَمِثْلُهُ لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قَضَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ بِهِ جُمُعَتُهُ فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ وَلَوْ ذَهَبُوا بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَكَبَّرُوا مَعَهُ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً لِأَنَّ الِافْتِتَاحَ بِالتَّكْبِيرِ يَحْصُلُ وَقَدْ كَانَ شَرْطُ الْجَمَاعَةِ مَوْجُودًا عِنْدَهُ وَقِيَاسًا بِالْخُطْبَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ أَتَمَّ الْجُمُعَةَ وَكَانَ اسْتِخْلَافُهُ إيَّاهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ كَاسْتِخْلَافِهِ بَعْدَ أَدَاءِ رَكْعَةٍ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الْجَمَاعَةُ شَرْطُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَكَانَ ذَهَابُ الْجَمَاعَةِ قَبْلَ تَقْيِيدِهَا كَذَهَابِهِمْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ ثُمَّ الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَهُوَ مُفْتَتِحٌ لِكُلِّ رُكْنٍ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ مُعِيدٌ لِلْأَرْكَانِ لَا مُفْتَتِحٌ وَلَيْسَ كَالْخُطْبَةِ فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ هُنَاكَ بَانٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَشَرْطُ الْخُطْبَةِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَهَهُنَا الْإِمَامُ أَصْلٌ فِي افْتِتَاحِ الْأَرْكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ رُكْنٍ (قَالَ): رَجُلٌ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ خَلِيفَتِهِ أَوْ صَاحِبِ الشَّرْطِ أَوْ الْقَاضِي لَمْ يُجْزِئْهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّلْطَانَ شَرْطٌ لِإِقَامَتِهَا وَقَدْ عُدِمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ هَلْ يُجْزِئُهُمْ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَامِلُ إفْرِيقِيَّةَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا حُصِرَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّمَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ فَإِذَا نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ إيَّاهُ (قَالَ): وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فِي الطَّاقَاتِ أَوْ فِي السُّدَّةِ أَوْ فِي دَارِ الصَّيَارِفَةِ أَجْزَأَهُ إذَا كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ يَجْعَلُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالِاصْطِفَافُ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِأَنَّهُ صَفٌّ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَتَخَلُّلُ الْأُسْطُوَانَةِ بَيْنَ الصَّفِّ كَتَخَلُّلِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ أَوْ كَفُرْجَةٍ بَيْنَ رِجْلَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَلَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ (قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَاقْتَدَى بِهِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُصَلِّي أَرْبَعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا».
وَهُمَا اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَقَدْ فَاتَهُ رَكْعَتَانِ ثُمَّ هُوَ بِإِدْرَاكِ التَّشَهُّدِ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْوِيهَا دُونَ الظُّهْرِ حَتَّى لَوْ نَوَى الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ثُمَّ الْفَرْضُ بِالِاقْتِدَاءِ تَارَةً يَتَعَيَّنُ إلَى الزِّيَادَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَقْتَدِي بِالْمُقِيمِ وَتَارَةً إلَى النُّقْصَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فِي اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَمَا دُونَهَا فِي تَعَيُّنِ الْفَرْضِ بِهِ فَكَذَا هُنَا وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَإِذَا أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَاطَ وَقَالَ: يُصَلِّي أَرْبَعًا احْتِيَاطًا وَذَلِكَ جُمُعَتُهُ وَلِهَذَا أَلْزَمَهُ الْقِرَاءَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ كَمَا هُوَ لَازِمٌ لِلْإِمَامِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِأَنَّهُ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تَكُونُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فِيهِ وَاجِبَةً وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى تَحْرِيمَةٍ عَقَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ جُمُعَةً فَلَا تَكُونُ الْجُمُعَةُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ (قَالَ): إمَامٌ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَدِمَ أَمِيرٌ آخَرُ يُصَلِّي فَإِنْ صَلَّى الْقَادِمُ بِخُطْبَةِ الْأَوَّلِ صَلَّى الظُّهْرَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِ وَإِنْ خَطَبَ خُطْبَةً أُخْرَى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ صَلَّى الْأَوَّلُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ الثَّانِي أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ الثَّانِي وَإِنْ عَلِمَ بِهِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهُ مُسْتَجْمِعٌ لِشَرَائِطِهَا وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْزِئُهُمْ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ إقَامَتَهَا لِعَدَمِ شُهُودِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ الْأَوَّلَ بِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ (قَالَ) وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ جَمَاعَةً فِي سِجْنٍ أَوْ فِي غَيْرِ سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ النَّاسَ أَغْلَقُوا أَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَمْصَارِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي جَمَاعَةً فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْكُنُ الْمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ شَيْئَانِ: تَرْكُ الْجَمَاعَةِ وَشُهُودُ الْجُمُعَةِ وَأَصْحَابُ السِّجْنِ قَدَرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ فَيَأْتُونَ بِذَلِكَ وَلَوْ جَوَّزْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ رُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُ الْمَعْذُورِ وَفِيهِ تَقْلِيلُ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرَى فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا شُهُودُ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ (قَالَ): وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (قَالَ) وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَفِظَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ مَا قَرَأَ فِيهَا وَنَقَلُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُنَافِقِينَ» وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى «قَرَأَ فِي الْأُولَى {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} وَفِي الثَّانِيَةِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}»
(قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ وَقَدَّمَهُ سَجَدَ بِهِمْ السَّجْدَتَيْنِ وَلَمْ يَحْتَسِبْ بِهِمَا مِنْ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَأْتِي بِمَا كَانَ يَأْتِي الْأَوَّلُ إلَّا أَنَّ شَرْطَ الِاحْتِسَابِ بِهِمَا لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الرُّكُوعِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِمَا كَانَ تَطَوُّعًا فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَوْمِ بِهِ وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ بَلْ هُمَا فَرْضٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ بِهِمَا لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاحْتِسَابِ فِي حَقِّهِ (قَالَ) وَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ جَازَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ) وَمَا قَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْجُمُعَةِ فَهُوَ حَسَنٌ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُوَقِّتُ لِذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَجْرِ مَا سِوَى مَا وَقَّتَهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مَهْجُورًا إلَّا أَنْ يَتَبَرَّكَ بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا فِيهَا فَيَقْتَدِي بِهِ (قَالَ): وَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيَقْعُدُ لِأَنَّهَا قَعْدَةُ الْخَتْمِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَيَعُودُ إلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْجُمُعَةُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ كَالظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ (قَالَ): وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَحْتَبِيَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ قُعُودَهُ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَقْعُدُ كَمَا شَاءَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّطَوُّعَاتِ فِي بَيْتِهِ كَانَ يَقْعُدُ مُحْتَبِيًا فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَفِي حَالَةِ انْتِظَارِهَا أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.